الحدود والتقاطعات بين التخييلي والواقعي في رواية "جزيرة الذكور" (1) لعزيز بنحدوش بقلم الباحث ابراهيم أزوغ
السياق والإشكال
تعيد رواية عزيز بنحدوش"جزيرة الذكور" نتيجة ما عرفته من قراءة "سيئة أو حرفية لها"وما نجم عن القراءة من ردود فعل سلبية امتدت لتلحق بكاتبها أثرا جسديا ونفسيا عميقا جراء الاعتداء عليه. طرح سؤال قديم جديد في حقل الدراسات النقدية يتمثل في الحدود والتقاطعات بين التخييلي والواقعي في النص الروائي، بين الواقعية النصية والواقع والإحالة عليه.
إن الرواية بقدر ما تسعى إلى أن تصون هويتها الفنية والتخيلية، وأن ترسم لواقعيتها النصية حدودا، تجعل منها عالما يتشكل نصا موازيا للواقع لا ينسخه أو يحاكيه، وفي الوقت ذاته غير منفصل عنه، قد تستحيل كذلك أداة لاستنساخ الواقع، ومرآة لانعكاس آثاره في الذات المبدعة، فتنمحي المسافات القائمة بين النسخة والأصل، وتتقلص مساحات الذاكرة وتتراجع لتفسح المجال لامتداد سلطة العين والصورة.
أمام هذا السؤال المركب، سؤال ماذا يكتب الكاتب؟ وسؤال ماذا يقرأ القارئ؟ سنسعى من خلال قراءتنا لرواية عزيز بنحدوش "جزيرة الذكور" لا إلى تقديم جواب، بل إلى تتبع علامات المكان وآثاره العابرة للذات المبدعة/الساردة نحو البناء والحدث السردي ونمط بناء الشخصية واختيارها، انطلاقا من فرضية كون دلالات النصوص وما تشيده من أفكار وتصورات لا تنفصل عن هذه المكونات.
بدل الحكاية
يروي النص السيرة الروائية لإدريس(2) ؛ مدرس الفلسفة الذي حل بجزيرة الذكور بتكليف من الوطن بمهمة نقل تودرت (مفردة أمازيغية تعني الحياة) وأيور(ويعني القمر: رمز النور والضياء) إلى الجزيرة والعبور بهذه الأخيرة "إلى وسع البحر"، وكان لابد لتحقيق هذه المهمة من تحويل صراع إدريس مع المكان والذي تحيل عليه المقاطع الأولى من النص، والأثر العميق لهذا الأخير في نفسيته، إلى ألفة، أو نقله عبر صيغ التجلي والخفاء من رمزي لمادي ومن المادي إلى الرمزي ليشمل بتعدد أشكاله وتجلياته مختلف مكونات المكان؛ القسم والأساتذة، والمراحيض والأبواب القصيرة، السوق، والحاج المدير، ووزير الفلسفة، وبابا علي وصاحب الدكان، ومكتب الحالة المدنية (..) ويبلغ الصراع ذروته مع شخصية موحى.
سعى إدريس عبر صراعاته التي تتلون بألوان أسئلة الحياة والذات في علاقتها بالمكان وقضاياه وإشكالاته إلى محاولة تغير وضع قائم وإحداث فجوة في فضاء قرية "تمغلدت" الذي تسيجه العتمة لتتسلل منه خيوط ضوء "أيور" لتعيد وصله بالحياة، مما جعل من علاقات الصراع القائمة بدورها على علاقة وجدانية لعين إدريس بالعالم الروائي، ولذاكرته بالشخوص الروائية أساسا تبني عليها الرواية برنامجها السردي والدلالي مما جعل المعنى في النص مشيدا على بلاغة الحب والكراهية للفضاء والشخصية والحدث.
يشيد الراوي وهو يمعن في سرد سيرة إدريس، حكاية البحث عن الحياة في مكان تنعدم فيه، والرغبة في الامتداد بالنور إلى أمكنة يحيطها الظلام، عبر أسئلة تتناسل لتشكل بلاغة نصية تتحكم في مجرى السرد وموضوعاته وأحداثه، وتسعى إلى تقليص المسافات وتجسيرها تارة، وإلى مدها وتوسيعها أخرى بين الكائن الذي تصفه عين إدريس والممكن الذي يشغل فكره، أمام القارئ المتورط في متابعة سيل الأسئلة الجارف والانخراط في افتراض الأجوبة والحلول وفي تشيد تصورات ورؤى.
رمزية الباب أو الإحالة على الاعتداء
ماذا لو كان عزيز بنحدوش يعرف بالاعتداء عليه قبل كتابته للرواية؟ لقد ساهم البناء التقليدي للرواية المؤسس على إستراتجيتين تتمثل الأولى في "إستراتجية المحاكاة المستهدفة القبض على الواقع وتحقيق تخييل يبعث على التماهي(3)" بين عوالم النص وخارجها، والثانية وهي خاصية تطبع النصوص الروائية "الجديدة"، خاصية تذويت الكتابة (4) باستثمار التجربة الشخصية في الكتابة، هذه الأخيرة ينتج عنها تحكم الذات الكاتبة في مكونات الخطاب السردي وامتداد دلالاته وفق رؤيتها للعالم. وتتجلى معالم الإستراتجيتين واضحة في النص من خلال الدور الإحالي للعنوان، الذي يعكس على مستوى النص غياب شبه تام للعنصر الأنثوي(5) في عالم "جزيرة الذكور"، والغياب أو التغيب يحمل بصيغة غير مباشرة عبر تنامي السرد وفق بناء زمني خطي تصاعدي، وترابط سببي تعليلي للأحداث في النص إدانة لسيادة الفكر الذكوري.
في منحى آخر يشكل البناء المتكامل للشخصية في الرواية كما لو أنها شخصية حقيقية ألبسها الروائي قناعا لعرض أفكار وتصورات، إضافة إلى هيمنة صوت إدريس الذي كاد يتماهى مع صوت السارد امتدادا للإستراتجيتين اللتين تظلان عوالم النص وشخوصه بظلال الواقع، وترمز شخصية المهيمن صوتها على باقي أصوات الشخصيات الروائية للحكمة، بتدريسها للفلسفة وأسئلتها الحاضرة في كل مقاطع النص السردية، وترمز شخصية بابا علي (راعي الغنم) التي منحها السارد حق الكلام والدفاع عن نفسها وأرضها في النص للشريعة، بخطبتها ليوم العيد بلغة الفقيه وبدلا عنه، لا بلغة الراعي، قال: "من أجل تودرت وأيور والأرض والعنزتان، من أجل كل هذا الذي أكله موحى، أدعوكم للوقوف أمام الله والمرآة، انظروا في أنفسكم ارتدوا البياض. عم صمت رهيب هذه الذائرة البيضاء، كل الرؤوس منكسرة، ساقطة على الصدور التي تحمل قلوبا صغيرة، كبيرة، لكنها مضطربة" (ص105)، في مقابل إسكات مطلق لموحى رمز الجهل عدو الحكمة والشريعة، وخائن الوطن.
في السياق ذاته يمثل إدريس أستاذ الفلسفة القادم إلى قرية تمغلدت، ضيفا. فيما يرمز بابا علي للباب الكبيرة (6) بطوله الشامخ وترحيبه بالضيف والاحتفاء به، ويرمز موحى للأبواب القصيرة التي أدمت مرات كثيرة (7) جبين إدريس، كما ستدمي جيبن الكاتب نفسه بعد صدور الرواية. هل نلمح إلى أن الكاتب قد تنبأ بما سيلحقه من اعتداء؟ أم أننا نقر بإحالة الرواية على واقع ماثل أمام الروائي؟ اليقين الوحيد لدينا هو كون إدريس يعرف "لماذا تضربه الأبواب الصغيرة التي لا تستوعب نور الشمس كلما حاول إضاءة المكان"(ص24).
السخرية والمقابلة والرمز في الرواية
يقابل البناء الإحالي في الرواية بناء ثان فني؛ ساخر، ورمزي، وبلاغي يعدد مداخل قراءة النص وتأويله، ويرسم لدلالات البنية الحكائية للرواية أفقا وطموحا آخر يتجاوز تمثيل الواقع والكائن إلى معانقة الممكن والمطلق عبر أسئلة (8) تتصل بالوجود والكينونة الإنسانية، وتنسج دلالات تستعصي على التحديد والحصر ويمكن أن نقدم منها:
-أ- السخرية والوظيفة:
للسخرية في النص وظيفة فنية تتمثل في كون الكاتب يرى فيها صيغة وبلاغة تعبيرية قادرة على مجاراة تحولات الواقع وعنفه على الذات الكاتبة، ووظائف أخرى دلالية اعتمدها الكاتب في فضح الزيف والنفاق الذين يحكمان المجتمع ( سخريته من: شراء الألقاب الدينية:الحاج/ومن الطبقة والانتماء الاجتماعي: المدير بائع الإسفنج والقهوة في شواطئ فرنسا / لباس الأبيض فوق الأسود/...)، ووسيلة يحافظ بها الروائي على قوة الشخصية لحظة ضعفها، كما يعمد إليها في تجسيد المسافة والفارق بين ماضي الإنسان في تمغلدت المقاوم القوي الصبور الحر، والخائنين أشباه الرجال المزورين (ص46-47)، كما ويرى فيها التعبير المناسب لتعرية، ونقد مصادر أعطاب المجتمع ومأساته (سخريته من الأستاذ ومناقشته قضايا وموضوعات تافهة ص:(49-50)/ المراقبة وحاجتها الى مراقبة: وزير-مفتش الفلسفة ص:55-59)/ المدير آكل المسطرات والأقلام (ص23)/كل شبر فيك يا وطني مرحاض: (ص 29)".
-ب – بلاغة التقابلات الضدية والترادفية ودروها في بناء المعنى:
تشيد بلاغة التقابلات الضدية والترادفية في النص معنى الاحتفاء بقيم وأفكار أو شخوص وإدانة أخرى، وقد امتد التقابل الترادفي أو الضدي ليشمل أغلب مكونات النص ويكفي أن نمثل لهذه البلاغة النصية بالمقابلة بين عالمي بابا علي الفقير المظلوم، ممثل قيم الخير، وموحى الظالم الغني الشرير، بين الأول الشامخ صاحب رائحة المسك، والحاج المدير آكل المسطرات والأقلام التلاميذية ومدخرات الأساتذة، صاحب الحذاء الذي يبعث على الغثيان، بين الأشخاص الحقيقين والأشباح، الأبطال والخونة، الهم والنحن، الأمازيغية (بأسردونها وأغيولها) والعربية (بحصانها وحمارها)، بين كلمات الآذان العربية ولحنها الأمازيغي، وبين أنوار مدينة الأنوار وظلمة موحى الفحمية، بين أساتذة الفرنسية الذين يحلون بعض الحرام، وأساتذة العربية الذين يحرمون حتى الحلال، بين الحوار والعنف بين شريعة علي وحكمة إدريس.
-ج-رمزية العبور:
يمثل العبور في النص تقنية فنية جمالية ودلالية، فإضافة إلى كون السارد يعبر بنا ومعنا: من لحظة وصول إدريس إلى جزيرة الذكور إلى انتصاره في صراعه مع الفضاء ومكوناته وتحقيقه لفتوحاته، وهو العبور الكبير؛ عبور من بداية النص الروائي إلى نهايته نجد النص يتأسس في كل مقاطعه على العبور للقضايا والأمكنة والأزمنة وللأفكار والأوضاع والإشكالات وهو ما يمنح النص حياة، ويضفي عليه حركة دائمة، ويساهم في طبع مجموع مكوناته بالتحول وما يعنيه ذلك من تطور في سبيل تشكيل رؤى وتصورات، وبناء للمعنى الجديد على آثار القديم. ونجد في هذا السياق عبور إدريس بالأسئلة الفلسفية المتصلة بالوجود والإنسان والحياة من داخل الفصل الدراسي للفلسفة إلى خارجه في جزيرة الذكور، بل العبور بالدرس الفلسفي في مجموعه إلى السوق وإلى فضاءات الجزيرة المختلفة "حيث حول إدريس جزيرة الذكور إلى قاعة للدرس"(ص93)، وعبور بشخوص الجزيرة من وضع وحالة إلى أخرى؛ إذ يعبر ببابا علي من الجزيرة إلى أعماق البحر حيث عوالم الحرية والتساؤل، وبموحى من الوحل (الغيس) والعنف إلى الحوار وضبط السلوك بالمعرفة، ومن لباس البياض فوق السواد إلى الاكتفاء بالأبيض، وتمتد عملية العبور لتصبح لغة تفكير وبلاغة عقل تعبر عن عبور إدريس من لغة لأخرى من ضمير إلى آخر من غربة إلى ألفة من شبحية وطيف النور والحياة إلى وجودهما الفعلي، هكذا عبر إدريس من العربية إلى الأمازيغية؛ فكلامه وأحلامه وضحكه ولباسه وسماعه في بداية النص بالعربية وكل شيء في الجزيرة بالأمازيغية ورد في النص: "ضحك إدريس لكن بالعربية (ص10) ضحك مسن بالأمازيغية، وضحك إدريس لضحكه بالعربية (ص10) أخرج البعض من ملابسه فاكتشف أنها كانت عربية، والبرد هنا أمازيغي (ص11)، السماع بالعربية (ص20) لم أستطع أن أحلم باللغة الأمازيغية (ص31)". أما في نهاية النص فقد تكلم إدريس وقال بالأمازيغية: "أدخ اغفر رب "(ص98)، بل "ويتعجب إما حانقا أو ضاحكا بالأمازيغية" (ص98 ) من أفعال موحى.
أما الضمير الذي يوحي في بداية النص بالغربة والصراع مع المكان، ومع كل شيء في الجزيرة بعدما كانوا اثنين هم ونحن (ص 31) في فكر إدريس صار الجميع في نهاية النص واحدا، أما العبور الأهم في النص والذي شغل إدريس فهو العبور بتودرت (الحياة ) وأيور(النور) من شبحيتهما ووجودهما بالقوة في دفاتر الحالة المدنية المزورة باعتبارهما ابنين لموحى في بداية النص، إلى وجود بالفعل في جزيرة الذكور في نهايته؛ حيث "أشرقت تودرت وسطع أيور"(ص94)، بل "قيل إن تودرت وأيور ظهرا بجانب علي الرجل الطويل وصليا معا على نهر يمتد سجادا أزرق كالبحر"؛ وبلغة أخرى إنه العبور إلى وسع البحر حيث الحرية والاختلاف.

1- <عزيز بنحدوش: جزيرة الذكور، رواية الطبعة الأولى 2014.
2-لابد أن يستحضر القارئ وهو يقرأ الرواية، رواية أوراق للأستاذ عبد الله العروي من خلال عملية تناصية بين الروايتين، من حيث حضور : السؤال الفلسفي – شخصية إدريس – تيمة الوطن.
3- محمد برادة: الرواية العربية ورهان التجديد، كتاب دبي الثقافية، الإصدار 49، الطبعة الأولى مايو 2011، دار صدى، ص31.
4 - نفسه ص67.
5- جاء ذكر الأنثى في النص مرتين الأولى منح لها السارد عبر السؤال الاستفزازي لإدريس داخل حصته الفلسفية حق الرد الذي يمثل صرخة أنثى في جزيرة ساد فيها صوت الذكر (ص25) وفي الثانية: إشارة عابرة للنساء في جزيرة الذكور
(ص 49-50) ثم لحفيدة موحى التي التحقت بالمؤسسة التي يدرس فيها إدريس فلسفته ضد الجهل ونسله وبدائله.
6- صحيح أن القادم إلى القرية قد يجد أمامه أبوابا صغيرة، وأخرى كبيرة، ولا محالة لمن لم يتعود عليها، من الخلط في الدخول أو الخروج بين الصغيرة والكبيرة، فيستقيم بطوله أمام الصغيرة وينحني في عبوره للكبيرة غير أن الباب الكبير، يرمز كذلك في الثقافة المغربية، كما الدار الكبيرة إلى الدار التي تحتفي بالضيف، وتبالغ في إكرامه فيعرف صاحبها بالكرم والنبل وشيم الأسياد، فيما ترمز الأبواب القصيرة والدور الصغيرة للعكس، وما يستتبع ذلك من ألفاظ التنقيص والتحقير لأصحابها.
7- يقول السارد: "تضرب الأبواب الصغيرة هنا الرؤوس العالية... ضرب إلى حد الآن مرتان، دائما في جبينه حيث قبله الوطن ومن الأبواب القصيرة"(ص15) ويقول"هذه المرة الباب هو من ضرب ادريس كانت الضربة مقصودة رسالة خاصة، إنها على ناصيته، لقد أحدث جرحا داميا على الجبين"(ص9)(أحب إدريس المكان رغم أن البدايات كانت دموية"(ص20)
8- تحضر بلاغة السؤال في مجمل مقاطع النص، ويتنوع السؤال ويتعدد موازيا لتيمات النص وقضايا الوجود والمجتمع الإشكالية. وبحاضر وفضاء الشخصية الروائية. انظر تمثيلا الأسئلة "من أنت؟ من نكون؟ ما معنى أن يكون الإنسان إنسانا؟ ...من صنعنا على هذا النحو ولماذا؟ من نحث شخصيتنا وحدد معالمها؟ ما هو حظنا من الحرية في كل هذا البناء؟" الصفحات ص 18/28/32/33/93(...).